فصل: فَصْلٌ: شَرْطُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرْطُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ:

وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلِوُجُوبِهَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي: نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَنَفَقَةَ الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ: التَّخْلِيَةَ وَهِيَ أَنْ تَخْلِي بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِرَفْعِ الْمَانِعِ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَقِيقَةً إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَسَائِلُ: إذَا تَزَوَّجَ بَالِغَةً حُرَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً وَنَقَلَهَا إلَى بَيْتِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ وَلَمْ يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَالزَّوْجُ بِتَرْكِ النُّقْلَةِ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ فَإِنْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ بِأَنْ امْتَنَعَتْ لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْعَاجِلِ- فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَاجِلِ مِنْ مَهْرِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ بَعْدَ مَا أَوْفَاهَا الْمَهْرَ إلَى دَارٍ مَغْصُوبَةٍ فَامْتَنَعَتْ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فَلَمْ تَمْتَنِعْ مِنْ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَتْ سَاكِنَةً مَنْزِلَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا لَا عَلَى سَبِيلِ النُّشُوزِ فَإِنْ قَالَتْ حَوِّلْنِي إلَى مَنْزِلِك أَوْ اكْتَرِ لِي مَنْزِلًا أَنْزِلُهُ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى مَنْزِلِي هَذَا آخُذُ كِرَاءَهُ- فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ التَّسْلِيمِ فِي بَيْتِهَا لِغَرَضِ التَّحْوِيلِ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ إلَى مَنْزِلِ الْكِرَاءِ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ؛ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا تَجِبُ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ لِلنَّاشِزَةِ وَهَذِهِ نَاشِزَةٌ، وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لَهَا لِكَوْنِهِ مَنْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ عِنْدَهُمَا وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مُحِقَّةٌ فِي الْمَنْعِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا النَّفَقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ النِّكَاحُ وَشَرْطُهُ عَدَمُ النُّشُوزِ وَقَدْ وُجِدَ وَشَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَنَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا لِقِيَامِ الْمَانِعِ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِذَلِكَ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ فَلَا يَجِبُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ تَخْدُمُ الزَّوْجَ وَيَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بِهَا بِالْخِدْمَةِ فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا.
فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْتَمِلْ الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَوْعُ مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَجِيءَ حَالٌ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى جِمَاعِهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةً؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ مِنْهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا أَوْ مَحْبُوسًا فِي دَيْنٍ أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ خَارِجًا لِلْحَجِّ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً قَبْلَ النُّقْلَةِ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ فَنُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا أَيْضًا فَإِذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَلَمْ يَنْقُلْهَا الزَّوْجُ وَهِيَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ النُّقْلَةِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَإِنْ كَانَتْ تَمْتَنِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا كَالصَّحِيحَةِ كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِذَا نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ؛ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ؛ إذْ هُوَ تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبَوُّءُ الْمَحَلِّ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ وَإِذَا أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ؛ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّسْلِيمَ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ وَإِذَا امْتَنَعَتْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّسْلِيمُ رَأْسًا؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَتْ الْمَرِيضَةُ تُؤْنِسُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ وَإِنْ نُقِلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ مَرَضًا لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَحِيحَةً كَذَا الِانْتِقَالُ ثُمَّ قَصُرَ التَّسْلِيمُ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ أَوْ نَقُولُ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ قَبْلَ الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا فِي حَقِّ الْوَطْءِ كَمَا فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَا إذَا نَقَلَهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهَا فَصَارَتْ مَعْتُوهَةً مَغْلُوبَةً أَوْ كَبِرَتْ فَطَعَنَتْ فِي السِّنِّ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ زَوْجُهَا جِمَاعَهَا أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ- فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ حُبِسَتْ فِي دَيْنٍ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْحَبْسُ قَبْلَ الِانْتِقَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى التَّخْلِيَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ قَدْ بَطَلَ بِإِعْرَاضِ حَبْسِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ وَفَاتَ التَّسْلِيمُ أَيْضًا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ مَطْلَبُهَا فَصَارَتْ كَالنَّاشِزِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً فِي دَيْنٍ مِنْ قَبْلِ النُّقْلَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ مَا أَجْمَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُوصِلَهُ إلَيْهَا؛ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا عَدَمُ الْمَنْعِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهَا فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَالتَّسْلِيمُ فَاتَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ مُمَاطَلَتُهَا فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ النُّقْلَةِ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا لِمَا قُلْنَا فِي الْمَرِيضَةِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي الْحَبْسِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْقَضَاءِ فَلَمْ تَقْضِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَقْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ صَارَتْ كَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا فَتَصِيرُ بِمَعْنَى النَّاشِزَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ ثُمَّ أَخَذَهَا رَجُلٌ كَارِهَةً فَهَرَبَ بِهَا شَهْرًا أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَنَعَهَا لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ لَهُمَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا إذَا طَلَبَتَا وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُمَا النَّفَقَةَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ فَأَمَّا قَبْلَ الِانْتِقَالِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمَا، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُمَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ فِي الْمَرِيضَةِ، إلَّا أَنَّ هاهنا قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا، وَقَالَ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي يَسْتَأْنِسُ بِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِمَا مُوجِبًا تَسْلِيمَ مِثْلِهِمَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْوَطْءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّسْلِيمِ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَتَسْلِيمِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ مَعَ مَا أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ بِالْعِلَاجِ فَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا وَطْئًا، وَلَوْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِنْ حَجَّتْ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ؛ فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَإِنْ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ، وَإِنْ كَانَتْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا النَّفَقَةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ فَاتَ بِأَمْرٍ مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ خُرُوجُهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالنَّاشِزَةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ نَقُولُ حَصَلَ التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ بِالِانْتِقَالِ ثُمَّ فَاتَ لِعُذْرٍ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَالْمَرِيضَةِ ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ يَفْرِضُ لَهَا الْقَاضِي نَفَقَةَ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نَفَقَةُ الْحَضَرِ فَأَمَّا زِيَادَةُ الْمُؤْنَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْكِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ عَلَيْهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ فِي الْحَضَرِ كَانَتْ الْمُدَاوَاةُ عَلَيْهَا لَا عَلَى الزَّوْجِ فَإِنْ جَاوَرَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَقَامَتْ بِهَا بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ إقَامَةً لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْذُورَةٍ فِي ذَلِكَ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ فَإِنْ طَلَبَتْ نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدْرَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا عَادَتْ أَخَذَتْ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةُ السَّفَرِ، وَنَفَقَةُ الْإِقَامَةِ تُفْرَضُ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَشَهْرٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا تَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَطْئًا وَاسْتِمْتَاعًا فِي الطَّرِيقِ فَصَارَتْ كَالْمُقِيمَةِ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَالتَّسْلِيمَ مَوْجُودٌ وَلِتَمَكُّنِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي الْإِيلَاءِ وَبِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ فَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا؛ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا مُدَّةَ عِدَّةِ أُخْتِهَا فَلِامْرَأَتِهِ النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِعَارِضٍ يَزُولُ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَلَا نَفَقَةَ لِأُخْتِهَا وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَمَةً أَوْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ إنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى تَجِبُ النَّفَقَةُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّبْوِئَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَخْدِمُهَا فَإِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى؛ لَمْ تَكُنْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّبْوِئَةِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ بِالتَّبْوِئَةِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَّتَهُ وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَلَوْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ فَكَانَتْ تَجِيءُ فِي أَوْقَاتٍ إلَى مَوْلَاهَا فَتَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا قَالُوا لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْخِدْمَةِ لَا يَقْدَحُ فِي التَّسْلِيمِ كَالْحُرَّةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبْوِئَةُ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا لَيْسَتْ حَقَّ الْمَوْلَى؛ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ فِي مَنَافِعِهَا كَالْحُرَّةِ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّسْلِيمِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ.
وَالْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَهُوَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْحُرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ؛ وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ إذَا صَارَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ؛ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَيَسْقُطَ حَقُّ الْغَرِيمِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَيَبْدَأُ بِهَا قَبْلَ الْغَلَّةِ لِمَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى ضَرَبَ عَلَيْهِ ضَرِيبَةً فَإِنَّ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ تُقَدَّمُ عَلَى ضَرِيبَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِالْفَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ بِهَا فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا هَلَكَ يَبْطُلُ الدَّيْنُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي قِيمَتِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ لَا فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ، وَالنَّفَقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا- لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقُتِلَ خَطَأً؛ سَقَطَتْ عِنْدَنَا وَلَا تُقَامُ الدِّيَةُ مَقَامَهُ فَكَذَا إذَا كَانَ عَبْدًا وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ- لِمَا قُلْنَا- غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُبَاعُونَ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِأَكْسَابِهِمْ لَا بِرِقَابِهِمْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِالْبَيْعِ، وَرِقَابُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَعِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ كَالْقِنِّ لِتَصَوُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ يَعُودُ قِنًّا فَيَسْعَى فِيهَا مَا دَامَ مُكَاتَبًا فَإِذَا قُضِيَ بِعَجْزِهِ وَصَارَ قِنًّا يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كَمَا فِي الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْعَجْزُ وَالْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ فَيَسْعَى فِي نَفَقَتِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ يَكُونُ حُرًّا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ الْحُرِّ وَتَكُونُ عَلَى الْأُمِّ نَفَقَتُهُ إنْ كَانَتْ غَنِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً فَعَلَى مَنْ يَرِثُ الْوَلَدَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَقِيرًا وَالزَّوْجُ أَبَ الْوَلَدِ غَنِيًّا لَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ قِنَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ يُنْفِقُ الْأَبُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا أَيْسَرَ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ هاهنا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا لَا تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبَةِ كَسْبًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْتَعِينُ بِأَكْسَابِهِ فِي رَقَبَتِهَا وَعِتْقِهَا وَإِذَا كَانَتْ أَكْسَابُهُ حَقًّا لَهَا؛ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ كَسْبَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ» وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ يَجِبُ لَهَا عَلَى أَبِيهَا دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى عَبْدِ أَبِيهَا وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَنَفَقَتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَالْكِتَابِيَّةُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَالذِّمِّيُّ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ كَالْمُسْلِمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي النَّفَقَةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَعَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَكَذَا عَلَى الذِّمِّيِّ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا إذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ حَتَّى قَالَ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعَا أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ النَّفَقَةَ مَعَ فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ مَعَ فَسَادِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنِّي أَفْرِضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أُقِرَّتْ عَلَى نِكَاحِهَا جَائِزًا كَانَ النِّكَاحُ عِنْدِي أَوْ بَاطِلًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهَا فَقَدْ أَلْحَقَ هَذَا النِّكَاحَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَقَدْ يُلْحَقُ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ النَّفَقَةِ الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ فَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَتَجِبُ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَنَفَقَةُ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُذْكَرُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ وَالنُّشُوزُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهِ بِأَنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَابَتْ أَوْ سَافَرَتْ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا فِي رِوَايَةٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفِعٌ بِهَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلًا وَالنُّشُوزُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أَوْ تَخْرُجَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى»؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كَانَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَخُصُّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِفُرْقَةٍ حَاصِلَةٍ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ مَرَّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ فَلَهَا الْكِسْوَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا شَرْطُ الْوُجُوبِ وَيَجِبَانِ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ لَا يَفْصِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ لَهَا السُّكْنَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهُمَا- وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ-، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحْمَائِهَا كَأُمِّ الزَّوْجِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَقَارِبِهِ فَأَبَتْ ذَلِكَ؛ عَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ مُفْرَدٍ؛ لِأَنَّهُنَّ رُبَّمَا يُؤْذِينَهَا وَيَضْرُرْنَ بِهَا فِي الْمُسَاكَنَةِ وَإِبَاؤُهَا دَلِيلُ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُعَاشِرَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يَتَّفِقُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ فَفَرَّغَ لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لِبَيْتِهَا غَلْقًا عَلَى حِدَةٍ قَالُوا: إنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِبَيْتٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا فَشَكَتْ إلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا؛ سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَيَأْمُرَ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا قَالَتْ؛ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ أَبَاهَا وَأُمَّهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَحَارِمَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا خَارِجِ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ بِأَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا الْفَسَادَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةُ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَنْ تُقَدَّرُ بِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ النَّفَقَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِكِفَايَتِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مُقَدَّرَةٌ بِنَفْسِهَا، عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ نِصْفُ مُدٍّ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أَيْ قَدْرَ سَعَتِهِ فَدَلَّ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ عِنْدِي وَمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ فَمَنْ قَدَّرَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الرِّزْقِ وَرِزْقُ الْإِنْسَانِ كِفَايَتُهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ.
وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» نَصَّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عَنْ الْكَسْبِ لِحَقِّهِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَ الَّذِي عِنْدَهُ السَّعَةُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْوَزْنِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ يَبْطُلُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْكِفَايَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا نَفَقَةً وَاجِبَةً بَلْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لِوُجُوبِهَا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَالزَّكَاةِ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً بِنَفْسِهَا كَالزَّكَاةِ وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مَمْنُوعٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ بَلْ تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الْحَبْسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ النَّفَقَةِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إلَّا مَأْدُومًا وَالدُّهْنُ لابد مِنْهُ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُقَدَّرُ نَفَقَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى أَيِّ سِعْرٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ إذْ السِّعْرُ قَدْ يَغْلُو وَقَدْ يَرْخُصُ بَلْ تُقَدَّرُ لَهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ غَلَاءً وَرُخْصًا رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِسْوَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ صَيْفِيَّةً وَشَتْوِيَّةً؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَحْتَاجُ إلَى اللِّبَاسِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُعْسِرَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ وَالْمُوسِرَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ قَرَارِ السِّعْرِ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِطَعَامٍ يَحْتَاجُ إلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَأَبَتْ الْمَرْأَةُ الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ يَعْنِي بِأَنْ تَطْبُخَ وَتَخْبِزَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَكِنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إنْ أَبَتْ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ أَنْ يَأْتِيَ لَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ؛ لَمْ يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْ الْأُجْرَةَ لَأَخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فِي الْفَتْوَى فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْأَخْذُ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ يَجِبُ لِخَادِمِهَا أَيْضًا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّغَةً لِشُغُلِهَا وَلِخِدْمَتِهَا لَا شُغْلَ لَهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْبَيْتِ لَا تَقُومُ بِهَا وَحْدَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ لِخَادِمَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ خِدْمَةَ امْرَأَةٍ لَا تَقُومُ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ بَلْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَامَ بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا وَخَادِمٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَامَ مَقَامَهُ؛ صَارَ كَأَنَّهُ خَدَمَ بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ لابد مِنْهُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ فَلَا يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ أَوْلَى مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَيُقَدَّرَ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدُ هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ؛ دَلَّ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى اتِّخَاذِ خَادِمٍ لَمْ يَكُنْ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ مِنْ النَّفَقَةِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ تُكْفَى الْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لَا بِحَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُوسِرَةً، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُعْسِرَةً؛ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ عَلَيْهِ أَدْنَى مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَأَوْسَعُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ يَأْكُلُ خُبْزَ الْحُوَّارَى وَلَحْمَ الْحَمَلِ وَالدَّجَاجِ، وَالْمَرْأَةُ مُفْرِطَةً فِي الْفَقْرِ تَأْكُلُ فِي بَيْتِهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ؛ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهَا مَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهَا مَا كَانَتْ تَأْكُلُ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا أَيْضًا وَلَكِنْ يُطْعِمُهَا خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الشَّاةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَجْهُ قَوْلِ الْخَصَّافِ إنَّ فِي اعْتِبَارِ حَالَتِهِمَا فِي تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتْوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ مِنْ الْكِفَايَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ فَيَكْفِيهَا مِنْ الْكِسْوَةِ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيلُ- أَيْضًا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا- عَلَى قَدْرِ حَالِهِ مِنْ الْخَشِنِ وَاللَّيِّنِ وَالْوَسَطِ، وَالْخَشِنُ إذَا كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَاللَّيِّنُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَسَطُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْكَتَّانِ عَلَى حَسَبِ عَادَاتِ الْبُلْدَانِ إلَّا الْخِمَارُ فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى الْغَنِيِّ خِمَارٌ حَرِيرٌ فِي الشِّتَاءِ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ حَشْوِيًّا وَفَرْوَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ كَمَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرَ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْكِسْوَةُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنَّهُ مُوسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَقَالَ الزَّوْجُ: إنِّي مُعْسِرٌ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي وَالْخَصَّافُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ فِي يَسَارِ الْمَطْلُوبِ وَإِعْسَارِهِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فَالْمَشَايِخُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَّمَ فِيهِ رَأْيَ الْمَطْلُوبِ وَمُحَمَّدٌ فَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ فِي الْبَعْضِ وَقَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ أَصْلًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَكَذَا فَصَلَ الْخَصَّافُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَصْلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الزَّوْجِ.
وَبَيَانُ الْأَصْلَيْنِ وَذِكْرُ الْحُجَجِ يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَبْسِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى يَسَارِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَا تُثْبِتُ شَيْئًا، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ لَهَا فَرِيضَةً لِلْوَقْتِ وَالسِّعْرُ رَخِيصٌ ثُمَّ غَلَا فَلَمْ يَكْفِهَا مَا فَرَضَ لَهَا فَإِنَّهُ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كِفَايَةُ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّعْرِ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ فَدَفَعَهَا الزَّوْجُ إلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَمْضِيَ الشَّهْرُ وَكَذَا إذَا كَسَاهَا الزَّوْجُ فَضَاعَتْ الْكِسْوَةُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَلَا كِسْوَةَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ لَهَا الْكِسْوَةَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى لِتَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا حَلَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ مَعْلُولًا بِالْحَاجَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُوسِرَةِ إلَّا أَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الِاحْتِبَاسِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ آخَرُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً فَمَضَى الْوَقْتُ الَّذِي أَخَذَتْ لَهُ وَقَدْ بَقِيَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ أَوْ الْكِسْوَةُ بِأَنْ أَكَلَتْ مِنْ مَالٍ آخَرَ أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا آخَرَ فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ صِلَةً مَحْضَةً وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ بَقَاءِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الِاحْتِبَاسِ لَكِنْ لَهَا شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ عَنْ الِاحْتِبَاسِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مُحْتَبِسَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِحَبْسٍ آخَرَ فلابد لَهَا مِنْ عِوَضٍ آخَرَ، وَلَوْ نَفِدَتْ نَفَقَتُهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي لَهَا أُخِذَتْ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا كِسْوَةَ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَالْفَرْقُ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ؛ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَاهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي هَلْ هُوَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمْ لَا وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ فَرْضِهَا مِنْ الْقَاضِي عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ شَرْطًا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} عَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ، فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا لِوُجُوبِهَا بِمُقَابَلَةِ الْمُتْعَةِ فَبَقِيَتْ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَالْمَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ وَيُحْبَسُ عَلَيْهَا وَالصِّلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَبْسَ وَالْجَبْرَ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ.
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ فَخَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَتْ صِلَةً؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِلصِّلَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا وَهِيَ الْقَبْضُ كَمَا فِي الْهِبَةِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ عِوَضًا مُطْلَقًا فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَا بَقَاؤُهَا وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَرَّضَانِ لِلْوَقْتِ فَلَوْ ثَبَتَ الْبَقَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْأَصْلَ فِيمَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَنَقُولُ: هَذَا حُكْمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لَا حُكْمَ الْوَاجِبِ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ بَلْ حُكْمُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا.
وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْحَبْسُ فَالصِّلَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَيُحْبَسُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صِلَةً وَكَذَا مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُوهَبَ عَبْدُهُ مِنْ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ؛ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ صِلَةً فَدَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ وَالْحَبْسَ لَا يَنْفِيَانِ مَعْنَى الصِّلَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي فَأَنْفَقَتْ أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ تَكُونُ مُتَطَوِّعَةً فِي الْإِنْفَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِعَدَمِ شَرْطِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ إلْزَامَ الدَّيْنِ الزَّوْجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ عَمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَا لَوْ صَالَحَتْ زَوْجَهَا عَلَى نَفَقَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكْفِيهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي مَا يَكْفِيهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لَهَا مَا يَكْفِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَطَّتْ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْحَطُّ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَالْإِبْرَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَى الْقَاضِي وَجَوَازِهِ مِنْهُ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْمَرْأَةِ الْفَرْضَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْرِضُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا فلابد مِنْ الطَّلَبِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَالثَّانِي: حَضْرَةُ الزَّوْجِ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً لَمْ يَفْرِضْ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قَالَ لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ غَائِبًا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ لِهِنْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهَا مَا تَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ مِنْ الْقَاضِي تَقْدِيرُهَا فَإِذَا لَمْ تُقَدَّرْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَمْ تَكُنْ قَضَاءً تَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا غَيْبَةَ سَفَرٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَائِبًا وَأَبُو سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إعَانَةً لَا قَضَاءً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ عَلَى الْغَائِبِ- قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَفْرِضُ، وَقَالَ زُفَرُ: يَسْمَعُ وَيَفْرِضُ لَهَا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ يَأْمُرُهَا بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ فِي وَجْهِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُنَفَّذْ وَلَمْ يَصِحَّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ لِيُقَالَ: إنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ كَذَا هاهنا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ لَا فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ فَإِذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ اسْتَعَادَ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَعَادَتْ؛ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُسْمَعُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا خَصْمَ فَلَا تُسْمَعُ، وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ أَنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ سَبِيلٌ لِعَدَمِ الْخَصْمِ؛ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَبُولِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ ضَرُورَةً هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَبِالْمَالِ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ فَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي فَلَمْ يَكُنْ الْفَرْضُ مِنْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ مُضَارِبِهِ أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَتَهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَفْرِضُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ؛ إذْ الْمُودِعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَلَى الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وَهُوَ الْمُودِعُ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ لَهَا حَقَّ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إلَى مَالِ زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا مِنْهُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَلَهُ عَلَى إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ؛ فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَفْرِضْ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْضِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعَةَ أَوْ الدَّيْنَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَصْمٍ عَنْ زَوْجِهَا فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ فَكَانَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا مِنْ جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ النَّفَقَةَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَا يَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ فِيهِ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ الْعُرُوضِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِيهِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الِامْتِنَاعِ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَالْغَائِبُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ فَلَا يُعْلَمُ ظُلْمُهُ فَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهَا كَفِيلًا فَهُوَ حَسَنٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى طَلَاقِهَا أَوْ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ عَاجِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيمَا يُعْطِيهَا بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ الزَّوْجُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَمْ يُعَجِّلْ لَهَا النَّفَقَةَ؛ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّلَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً وَاسْتَحْلَفَهَا فَنَكَلَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ تَعَجَّلَتْ النَّفَقَةَ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، وَلَوْ طَلَبَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَهْرَهَا وَنَفَقَتَهَا مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ؛ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ كَانَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْمَهْرِ وَالدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ فَرَضَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ قَبْلَ غَيْبَتِهِ فَطَلَبَتْ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ قَضَى لَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فُقَرَاءُ وَكِبَارٌ ذُكُورٌ زَمْنَى فُقَرَاءُ أَوْ إنَاثٌ فَقِيرَاتٌ وَوَالِدَانِ فَقِيرَانِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ مِنْهُ فَرَضَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ يَكُونُ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهُمْ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْضَى بِإِحْيَاءِ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ مِنْ مَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ الْآخَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ هاهنا فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ جَحَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لَمْ يَفْرِضْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجَةِ وَلَا يُفْرَضُ لِغَيْرِهِمَا وَلَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْغَائِبِ أَصْلًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْفَرْضُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ؛ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعَقَارَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ مَا بَيَّنَّا مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوْ الِاخْتِلَافِ وَفِي بَيْعِ الْأَبِ الْعُرُوضَ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ.
وَأَمَّا يَسَارُ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفَرْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَتُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَرْضَ، وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ النُّقْلَةِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لَوْ طَالَبَهَا بِالتَّسْلِيمِ أَوْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ- فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا إعَانَةً لَهَا عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقِّهَا الْوَاجِبِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا حَوَّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَوْ شَكَتْ التَّضْيِيقَ فِي النَّفَقَةِ؛ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَرْضِ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ وَالتَّوْسِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَتَأَتَّى فِي الْفَرْضِ وَيَتَوَلَّى الزَّوْجُ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْفَرْضِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّضْيِيقِ فِي النَّفَقَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْرِضُ عَلَيْهِ نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ هِيَ بِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَاضِي إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْحَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيلِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا أُوجِبُ عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ لَهَا بَعْدُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ لَهَا مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَجِبُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْتَدُّ إلَى شَهْرٍ غَالِبًا وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ لَا تَجِبُ قَبْلَ الشَّهْرِ فَكَانَ تَكْفِيلًا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَوْ أَعْطَاهَا كَفِيلًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يَنُوبُ عَلَى فُلَانٍ جَائِزَةٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَنَقُولُ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَشْهُرًا غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا بِالْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي؛ صَارَتْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ تُؤْخَذْ أَنَّهَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا رَأْسًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى فَلَا يَبْقَى الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِلْكِفَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْكِفَايَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَلَيْسَ فِي مُضِيِّ الزَّمَانِ إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَتْ اسْتِدَانَتُهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي؛ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا خَاصَّةً وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِمَا اسْتَدَانَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ الْقَاضِي؛ لَهَا أَنْ تُحِيلَ الْغَرِيمَ عَلَى الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ فَائِدَةُ إذْنِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ، وَلَوْ فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا وَهُوَ مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ لَهَا أَنْ تَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ؛ صَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بَلْ يُؤَخِّرُ الْحَبْسَ إلَى مَجْلِسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَعِظُهُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يُقَدَّمُ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ؛ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحَبْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُبِسَ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ فَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ سَلَّمَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ أَعْطَاهَا الزَّوْجُ مَالًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ هِيَ: هُوَ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَكَانَ هُوَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَعَثَ إلَيْهَا شَيْئًا فَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَّةٌ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُهُ إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ- لِمَا قُلْنَا- كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَاحْتَسَبَتْ عَنْ نَفَقَتِهَا؛ جَازَ لَكِنْ بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّقَاصُرَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَدَيْنُ الزَّوْجِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَدَيْنُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فَاشْتَبَهَ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ فلابد مِنْ الْمُقَاصَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الدُّيُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.